فصل: الْبَحْثُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ يَقْرُبُ مِنَ الِالْتِفَاتِ نَقْلُ الْكَلَامِ إِلَى غَيْرِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.فَائِدَةٌ:

اخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يخلف الميعاد} بَعْدَ {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا ريب فيه}.
فَقِيلَ: إِنَّ الْكَلَامَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: {لَا ريب فيه} وهذا الذي بعده من مقولا لله تَصْدِيقًا لَهُمْ.
وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِهِمُ الْأَوَّلِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إلى الغيبة كقوله: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ}.
فإن قلت: قد قال فِي آخِرِ السُّورَةِ: {وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنك لا تخلف الميعاد}، فَلِمَ عَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ هُنَا قُلْتُ إِنَّمَا جَاءَ الِالْتِفَاتُ فِي صَدْرِ السُّورَةِ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِيهِ فَإِنَّ الْإِلَهِيَّةَ تَقْتَضِي الْخَيْرَ وَالشَّرَّ لِتُنْصِفَ الْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ فَكَانَ الْعُدُولُ إِلَى ذِكْرِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ أَوْلَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخر السورة: {إنك لا تخلف الميعاد}، فَذَلِكَ الْمَقَامُ مَقَامُ الطَّلَبِ لِلْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُنْعِمَ عَلَيْهِ بِفَضْلِهِ وَأَنْ يَتَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئَاتِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْعُدُولَ عَنِ الْأَصْلِ الْمُسْتَمِرِّ.

.الْبَحْثُ الرَّابِعُ: فِي شَرْطِهِ:

تَقَدَّمَ أَنَّ شَرْطَ الِالْتِفَاتِ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ عَائِدًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِلَى الْمُنْتَقَلِ عَنْهُ وَشَرْطُهُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ فِي جُمْلَتَيْنِ أَيْ كَلَامَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ حَتَّى يَمْتَنِعَ بين الشرط وجوابه.
وفي هذا الشرط نظره فَقَدْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مَوَاضِعُ الِالْتِفَاتُ فِيهَا وَقَعَ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي}.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}.
وَقَوْلِهِ: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ}، بعد قوله: {إنا أحللنا لك} التَّقْدِيرُ إِنْ وَهَبَتِ امْرَأَةٌ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنَّا أحللنا لك وَجُمْلَتَا الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَلَامٌ وَاحِدٌ.
وَقَوْلِهِ: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ}.
وَقَوْلِهِ: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بالله ورسوله} وَفِيهِ الْتِفَاتَانِ: أَحَدُهُمَا بَيْنَ (أَرْسَلْنَا) وَالْجَلَالَةِ، وَالثَّانِي بين الكاف في (أرسلناك) (ورسوله) وَكُلٌّ مِنْهُمَا فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ.
وَقَوْلِهِ: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بالله}.
وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جزاء موفورا}، وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ (جَزَاؤُكُمْ) يَعُودُ عَلَى (التَّابِعِينَ) عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ.
وَقَوْلِهِ: {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله}، عَلَى قِرَاءَةِ الْيَاءِ.
وقوله: {وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا}، قَالَ التَّنُوخِيُّ فِي (الْأَقْصَى الْقَرِيبِ): الْوَاوُ لِلْحَالِ.
وَقَوْلِهِ: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وإليه ترجعون}.

.الْبَحْثُ الْخَامِسُ: أَنَّهُ يَقْرُبُ مِنَ الِالْتِفَاتِ نَقْلُ الْكَلَامِ إِلَى غَيْرِهِ:

وَإِنَّمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ إِذَا ابْتُلِيَ الْعَاقِلُ بِخَصْمٍ جَاهِلٍ مُتَعَصِّبٍ فَيَجِبُ أَنْ يَقْطَعَ الْكَلَامَ مَعَهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ خَوْضُهُ مَعَهُ أَكْثَرَ كَانَ بُعْدُهُ عَنِ الْقَبُولِ أَشَدَّ فَالْوَجْهُ حِينَئِذٍ أَنْ يُقْطَعَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَأَنْ يُؤْخَذَ فِي كَلَامٍ آخَرَ أَجْنَبِيٍّ وَيُطْنَبَ فِيهِ بِحَيْثُ يَنْسَى الْأَوَّلُ فَإِذَا اشْتَغَلَ خَاطِرُهُ بِهِ أَدْرَجَ لَهُ أَثْنَاءَ الْكَلَامِ الْأَجْنَبِيِّ مُقَدَّمَةً تُنَاسِبُ ذَلِكَ الْمَطْلَبَ الْأَوَّلَ لِيَتَمَكَّنَ مِنِ انْقِيَادِهِ.
وَهَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو الْفَضْلِ فِي كِتَابِ (دُرَّةِ التَّنْزِيلِ)، وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يقولون واذكر عبدنا داود}، قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: (وَاذْكُرْ) لَيْسَ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ بَلْ نَقْلًا لَهُمْ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ وَالْمُقَدَّمَةُ الْمُدْرَجَةُ قَوْلُهُ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وما بينهما باطلا} إِلَى قَوْلِهِ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياته وليتذكر أولو الألباب}.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ يُخْرِجُ الْآيَةَ عَنِ الِاتِّصَالِ مَعَ أَنَّ فِي الِاتِّصَالِ وُجُوهًا مَذْكُورَةً فِي موضعها.
وَأَلْحَقَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا} الْآيَةَ، فَهَذَا إِنْكَارٌ مِنْهُمْ لِلْبَعْثِ وَاسْتِبْعَادٌ نَحْوُ الْوَارِدِ فِي سُورَةِ (ص)، فَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِمَا يُشْبِهُ الِالْتِفَاتَ بِقَوْلِهِ: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فوقهم كيف بنيناها} إلى قوله: {وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج}، فَبَعْدَ الْعُدُولِ عَنْ مُجَاوَبَتِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: {ذَلِكَ رجع بعيد} وَذِكْرِ اخْتِلَافِهِمُ الْمُسَبَّبِ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أمر مريج}، صَرَفَ تَعَالَى الْكَلَامَ إِلَى نَبِيِّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} إلى قوله: {وأحيينا به بلدة ميتا} وَذَلِكَ حِكْمَةٌ تُدْرَكُ مُشَاهَدَةً لَا يُمْكِنُهُمُ التَّوَقُّفُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَلَا حُفِظَ عَنْهُمْ إِنْكَارُهُ فَعِنْدَ تَكَرُّرِ هَذَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ}.
وَمِمَّا يَقْرُبُ مِنَ الِالْتِفَاتِ أَيْضًا الِانْتِقَالُ مِنْ خِطَابِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ إِلَى خِطَابٍ آخَرَ وَهُوَ سِتَّةُ أَقْسَامٍ كَمَا سَبَقَ تَقْسِيمُ الِالْتِفَاتِ:
أَحَدُهَا: الِانْتِقَالُ مِنْ خِطَابِ الْوَاحِدِ لِخِطَابِ الِاثْنَيْنِ، كقوله تعالى: {جئتنا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء في الأرض}.
الثاني: من خطاب الواحد إلى خطاب الجمع: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء}.
الثَّالِثُ: مِنَ الِاثْنَيْنِ إِلَى الْوَاحِدِ، كَقَوْلِهِ: {فَمَنْ ربكما يا موسى}، {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى}.
الرَّابِعُ: مِنَ الِاثْنَيْنِ إِلَى الْجَمْعِ، كَقَوْلِهِ: {وَأَوْحَيْنَا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصلاة وبشر المؤمنين}، وَفِيهِ انْتِقَالٌ آخَرُ مِنَ الْجَمْعِ إِلَى الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ ثَنَّى ثُمَّ جَمَعَ ثُمَّ وَحَّدَ تَوَسُّعًا فِي الْكَلَامِ.
وَحِكْمَةُ التَّثْنِيَةِ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ هُمَا اللَّذَانِ يُقَرِّرَانِ قَوَاعِدَ النُّبُوَّةِ وَيَحْكُمَانِ فِي الشَّرِيعَةِ فَخَصَّهُمَا بِذَلِكَ ثُمَّ خَاطَبَ الْجَمِيعَ بِاتِّخَاذِ الْبُيُوتِ قِبْلَةً لِلْعِبَادَةِ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مَأْمُورُونَ بِهَا ثم قال لموسى وحده: {وبشر المؤمنين} لِأَنَّهُ الرَّسُولُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي إِلَيْهِ الْبِشَارَةُ وَالْإِنْذَارُ.
الْخَامِسُ: مِنَ الْجَمْعِ إِلَى الْوَاحِدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين} وَقَدْ سَبَقَ حِكْمَتُهُ. وَمِنْ نَظَائِرِهِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} ثم قال: {إما يأتينكم مني هدى}، وَلَمْ يَقُلْ (مِنَّا) مَعَ أَنَّهُ لِلْجَمْعِ أَوْ لِلْوَاحِدِ الْمُعَظِّمِ نَفْسَهُ وَحِكْمَتُهُ الْمُنَاسَبَةُ لِلْوَاقِعِ فَالْهُدَى لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ فَنَاسَبَ الْخَاصَّ لِلْخَاصِّ.
السَّادِسُ: مِنَ الْجَمْعِ إِلَى التَّثْنِيَةِ، كَقَوْلِهِ: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا} إلى قوله: {فبأي آلاء ربكما تكذبان}.
السَّابِعُ: ذَكَرَ بَعْضُهُمْ مِنَ الِالْتِفَاتِ تَعْقِيبَ الْكَلَامِ بِجُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ مُلَاقِيَةٍ لَهُ فِي الْمَعْنَى عَلَى طَرِيقِ الْمَثَلِ أَوِ الدُّعَاءِ، فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: {وَزَهَقَ الباطل إن الباطل كان زهوقا} والثاني كقوله: {ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم}.
الثامن: من الماضي إلى الأمر، كقوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كل مسجد وادعوه} وَقَوْلِهِ: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزور} التَّاسِعُ: مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ إِلَى الْأَمْرِ، تَعْظِيمًا لِحَالِ مَنْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ الْمُسْتَقْبَلُ. وَبِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، كَقَوْلِهِ تعالى: {يا هود ما جئتنا ببينة} إلى قوله: {بريء مما تشركون} فإنه إنما قال: {أشهد الله}، و: {اشهدوا} وَلَمْ يَقُلْ (وَأُشْهِدُكُمْ) لِيَكُونَ مُوَازِنًا لَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَى إِشْهَادِ اللَّهِ عَلَى الْبَرَاءَةِ صَحِيحٌ فِي مَعْنًى يُثْبِتُ التَّوْحِيدَ بِخِلَافِ إِشْهَادِهِمْ فَمَا هُوَ إِلَّا تَهَاوُنٌ بِدِينِهِمْ وَدَلَالَةٌ عَلَى قلة المبالاة به فلذلك عدل عن لفظ الْأَوَّلِ لِاخْتِلَافِ مَا بَيْنَهُمَا وَجِيءَ بِهِ عَلَى لَفْظِ الْأَمْرِ كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ مُنْكِرًا اشْهَدْ عَلَيَّ أَنِّي أُحِبُّكَ.
الْعَاشِرُ: مِنَ الْمَاضِي إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ، نَحْوَ: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ}، {فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير}، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
وَالْحِكْمَةُ فِي هَذِهِ أَنَّ الْكُفْرَ لَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ إِذَا حَصَلَ أَنْ يَسْتَمِرَّ حُكْمُهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي لِيُفِيدَ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ نافيا أَنَّهُ قَدْ مَضَى عَلَيْهِ زَمَانٌ وَلَا كَذَلِكَ الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ حُكْمَهُ إِنَّمَا ثَبَتَ حَالَ حُصُولِهِ مَعَ أَنَّ فِي الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ إِشْعَارًا بِالتَّكْثِيرِ، فَيُشْعِرُ قَوْلُهُ: {وَيَصُدُّونَ} أَنَّهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِصَدَدِ ذَلِكَ وَلَوْ قَالَ وَصَدُّوا لَأَشْعَرَ بِانْقِطَاعِ صدهم.
الحادي عشر: عكسه، كقوله: {يوم يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ}، {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ}.
قَالُوا: وَالْفَائِدَةُ فِي الْفِعْلِ الْمَاضِي إِذَا أُخْبِرَ بِهِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ أَنَّهُ أَبْلَغُ وَأَعْظَمُ مَوْقِعًا لِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ وَالْفَائِدَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِذَا أُخْبِرَ بِهِ عَنِ الْمَاضِي لِتَتَبَيَّنَ هَيْئَةُ الْفِعْلِ بِاسْتِحْضَارِ صُورَتِهِ لِيَكُونَ السَّامِعُ كَأَنَّهُ شَاهِدٌ وَإِنَّمَا عَبَّرَ فِي الْأَمْرِ بِالتَّوْبِيخِ بالماضي بعد قوله: (ينفخ) لِلْإِشْعَارِ بِتَحْقِيقِ الْوُقُوعِ وَثُبُوتِهِ وَأَنَّهُ كَائِنٌ لَا محالة كقوله: {وبرزوا لله جميعا} والمعنى: يبرزون، وإنما قال: (وحشرناهم) بعد (نسير) (وترى) وَهُمَا مُسْتَقْبَلَانِ لِذَلِكَ.

.التَّضْمِينُ:

وَهُوَ إِعْطَاءُ الشَّيْءِ مَعْنَى الشَّيْءِ وَتَارَةً يَكُونُ فِي الْأَسْمَاءِ وَفِي الْأَفْعَالِ وَفِي الْحُرُوفِ فَأَمَّا فِي الْأَسْمَاءِ فَهُوَ أَنْ تُضَمِّنَ اسْمًا مَعْنَى اسْمٍ لِإِفَادَةِ مَعْنَى الِاسْمَيْنِ جَمِيعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} ضُمِّنَ حَقِيقٌ مَعْنَى حَرِيصٍ لِيُفِيدَ أَنَّهُ مَحْقُوقٌ بِقَوْلِ الْحَقِّ وَحَرِيصٌ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْأَفْعَالُ فَأَنْ تُضَمِّنَ فِعْلًا مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ وَيَكُونَ فِيهِ مَعْنَى الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ يَتَعَدَّى بِحَرْفٍ فَيَأْتِي مُتَعَدِّيًا بِحَرْفٍ آخَرَ لَيْسَ مِنْ عَادَتِهِ التَّعَدِّي بِهِ فَيُحْتَاجُ إِمَّا إِلَى تَأْوِيلِهِ أَوْ تَأْوِيلِ الْفِعْلِ لِيَصِحَّ تَعَدِّيهِ بِهِ.
وَاخْتَلَفُوا أَيُّهُمَا أَوْلَى فَذَهَبَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّ التَّوَسُّعَ فِي الْحَرْفِ وَأَنَّهُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ غَيْرِهِ مِنَ الْحُرُوفِ أَوْلَى.
وَذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إِلَى أَنَّ التَّوَسُّعَ فِي الْفِعْلِ وَتَعْدِيَتَهُ بِمَا لَا يَتَعَدَّى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى مَا يَتَعَدَّى بِذَلِكَ الْحَرْفِ أَوْلَى لِأَنَّ التَّوَسُّعَ فِي الْأَفْعَالِ أَكْثَرُ.
مِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بها عباد الله} فَضَمَّنَ (يَشْرَبُ) مَعْنَى (يَرْوِي) لِأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ فَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الْبَاءُ وَإِلَّا فَـ: (يَشْرَبُ) يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ فَأُرِيدَ بِاللَّفْظِ الشُّرْبُ وَالرَّيُّ مَعًا فَجَمَعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ.
وَقِيلَ التَّجَوُّزُ فِي الْحَرْفِ وَهُوَ الْبَاءُ فَإِنَّهَا بِمَعْنَى (مِنْ).
وَقِيلَ لَا مَجَازَ أَصْلًا بَلِ العين هاهنا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَنْبُعُ مِنْهُ الْمَاءُ، لَا إِلَى الْمَاءِ نَفْسِهِ نَحْوَ نَزَلْتُ بِعَيْنٍ فَصَارَ كَقَوْلِهِ: مَكَانًا يُشْرَبُ بِهِ.
وَعَلَى هَذَا: {فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب}، قَالَهُ الرَّاغِبُ.
وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَجَازِ فَإِنَّ فِيهِ الْعُدُولَ عَنْ مُسَمَّاهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَيُرَادُ بِهِ غَيْرُهُ كقوله: {جدارا يريد أن ينقض}، فَإِنَّهُ اسْتَعْمَلَ (أَرَادَ) فِي مَعْنَى مُقَارَبَةِ السُّقُوطِ لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ الْإِرَادَةِ وَإِنَّ مَنْ أَرَادَ شيئا فقد قارب فعلهولم يُرِدْ بِاللَّفْظِ هَذَا الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ الَّذِي هُوَ الْإِرَادَةُ أَلْبَتَّةَ. وَالتَّضْمِينُ أَيْضًا مَجَازٌ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يُوضَعْ لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَعًا وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَجَازٌ خَاصٌّ يُسَمُّونَهُ بِالتَّضْمِينِ تَفْرِقَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَجَازِ الْمُطْلَقِ.
وَمِنَ التَّضْمِينِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: رَفَثْتُ إِلَى الْمَرْأَةِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ بِمَعْنَى الْإِفْضَاءِ سَاغَ ذَلِكَ.
وَهَكَذَا قوله: {هل لك إلى أن تزكى} وَإِنَّمَا يُقَالُ: هَلْ لَكَ فِي كَذَا؟ لَكِنَّ الْمَعْنَى أَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى.
وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الذي يقبل التوبة عن عباده}، فجاء بـ: (من) لِأَنَّهُ ضَمَّنَ التَّوْبَةَ مَعْنَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ.
وَقَوْلُهُ: {إذا خلوا إلى شياطينهم}، وَإِنَّمَا يُقَالُ: خَلَوْتُ بِهِ لَكِنْ ضَمَّنَ (خَلَوْا) مَعْنَى (ذَهَبُوا) (وَانْصَرَفُوا) وَهُوَ مُعَادِلٌ لِقَوْلِهِ لَقُوا وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ (إِلَى) هُنَا بِمَعْنَى (الْبَاءِ) أَوْ بِمَعْنَى (مَعَ).
وَقَالَ مَكِّيٌّ: إِنَّمَا لَمْ تَأْتِ الْبَاءُ لِأَنَّهُ يُقَالُ خَلَوْتُ بِهِ إِذَا سَخِرْتَ مِنْهُ فَأَتَى بِـ: (إِلَى) لِدَفْعِ هَذَا الْوَهْمِ.
وقوله: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم}، قِيلَ: الصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ أَيْ لألزمن لك صراطك أو لأملكنه لَهُمْ وَ: (أَقْعُدُ) وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ ضُمِّنَ مَعْنَى فِعْلٍ مُتَعَدٍّ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَعْدُ عيناك عنهم}، ضمن (تعد) معنى (تنصرف) فعدى بـ: (من) قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ حَقُّ الْكَلَامِ (لَا تَعْدُ عَيْنَيْكَ عَنْهُمْ) بِالنَّصْبِ لِأَنَّ تَعْدُ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ فَبَاطِلٌ لِأَنَّ عَدَوْتَ وجاوزت بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَأَنْتَ لَا تَقُولُ: جَاوَزَ فُلَانٌ عَيْنَهُ عَنْ فُلَانٍ وَلَوْ كَانَتِ التِّلَاوَةُ بِنَصْبِ العين لكان اللفظ يتضمنها مَحْمُولًا أَيْضًا عَلَى لَا تَصْرِفْ عَيْنَكَ عَنْهُمْ وإذا كَذَلِكَ فَالَّذِي وَرَدَتْ بِهِ التِّلَاوَةُ مِنْ رَفْعِ الْعَيْنِ يَئُولُ إِلَى مَعْنَى النَّصْبِ فِيهَا إِذْ كان (لا تَعْدُ عَيْنَاكَ) بِمَنْزِلَةِ (لَا تَنْصَرِفْ) وَمَعْنَاهُ لَا تَصْرِفْ عَيْنَكَ عَنْهُمْ فَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ إِلَى الْعَيْنِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُوَجَّهٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ: {وَلَا تُعْجِبْكَ أموالهم} أَسْنَدَ الْإِعْجَابَ إِلَى الْأَمْوَالِ وَالْمَعْنَى لَا تُعْجَبْ بأموالهم.
وقوله: {أو لتعودن في ملتنا}، ضمن معنى (لتدخلن) أو (لتصيرن) أما قَوْلُ شُعَيْبٍ: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فيها} فَلَيْسَ اعْتِرَافًا بِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ بَلْ مُؤَوَّلٌ عَلَى مَا سَبَقَ وَتَأْوِيلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ نِسْبَةِ فِعْلِ الْبَعْضِ إِلَى الْجَمَاعَةِ أو قال عَلَى طَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ لِكَلَامِهِمْ وَهَذَا أَحْسَنُ.
وَقَوْلُهُ: {أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} ضُمِّنَ (لَا تُشْرِكْ) مَعْنَى (لَا تَعْدِلْ) وَالْعَدْلُ: التَّسْوِيَةُ أَيْ لا تسوى به شيئا.
وقوله: {وأخبتوا إلى ربهم} ضُمِّنَ مَعْنَى (أَنَابُوا) فَعُدِّيَ بِحَرْفِهِ.
وَقَوْلُهُ: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قلبها} ضمن {لتبدي به} مَعْنَى (تُخْبِرُ بِهِ) أَوْ (لِتُعْلِمَ) لِيُفِيدَ الْإِظْهَارُ مَعْنَى الْإِخْبَارِ لِأَنَّ الْخَبَرَ قَدْ يَقَعُ سِرًّا غَيْرَ ظَاهِرٍ.
وَقَوْلُهُ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مقاما محمودا} جَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ نَصْبَ {مَقَامًا} عَلَى الظَّرْفِ عَلَى تَضْمِينِ {يَبْعَثُكَ} مَعْنَى يُقِيمُكَ.
وَقَوْلُهُ: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وشركاءكم}، قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَمَنْ قَرَأَ {فَأَجْمِعُوا} بِالْقَطْعِ أَرَادَ فأجمعوا أمركم وشركاءكم كَقَوْلِهِ:
مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا

وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا فزع عن قلوبهم}، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: عَدَّاهُ بِـ: (مَنْ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى كَشْفِ الْفَزَعِ.
وَقَوْلُهُ: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أعزة على الكافرين}، فَإِنَّهُ يُقَالُ ذَلَّ لَهُ لَا عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ هُنَا ضُمِّنَ مَعْنَى التَّعَطُّفِ وَالتَّحَنُّنِ.
وَقَوْلُهُ: {لِلَّذِينَ يؤلون من نسائهم} ضمن {يؤلون} معنى (يمتعنون) مِنْ وَطْئِهِنَّ بِالْأَلِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ: {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الملأ الأعلى} أَيْ لَا يُصْغُونَ.
{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن} أي أنزل.
{فيما فرض الله له} أَيْ أَحَلَّ لَهُ.
{ومطهرك من الذين كفروا} أَيْ مُمَيِّزُكَ.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين} أي لا يرضى.
{استقيموا إليه} أَيْ أَنِيبُوا إِلَيْهِ وَارْجِعُوا.
{هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} أَيْ زَالَ.
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} فَإِنَّهُ يُقَالُ: خَالَفْتُ زَيْدًا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ لِتَعَدِّيهِ بِالْجَارِّ وَإِنَّمَا جَاءَ مَحْمُولًا عَلَى (يَنْحَرِفُونَ) أَوْ (يَزِيغُونَ).
وَمِثْلُهُ تَعْدِيَةُ (رَحِيمٍ) بِالْبَاءِ فِي نحو: {وكان بالمؤمنين رحيما} حملا على (رءوف) في نحو: {رؤوف رحيم} أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: رَأَفْتُ بِهِ وَلَا تَقُولُ رَحِمْتُ بِهِ وَلَكِنْ لَمَّا وَافَقَهُ فِي الْمَعْنَى تَنَزَّلَ مَنْزِلَتَهُ فِي التَّعْدِيَةِ.
وَقَوْلُهُ: {إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ضُمِّنَ مَعْنَى سَائِلٍ.
{الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى الناس} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ضُمِّنَ مَعْنَى (تَحَامَلُوا) فَعَدَّاهُ بِـ: (عَلَى) وَالْأَصْلُ فِيهِ (مِنْ).